الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (121): {وَإِذْ غَدَوْتَ} أي واذكر إذ خرجت غدوة {مِنْ} عند {أَهْلِكَ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها {تُبَوّئ المؤمنين} أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل: تنزلهم، وقيل: تسوي وتهيء لهم، ويؤيده قراءة للمؤمنين إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي مواطن ومواقف ومقامات له، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم توسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقًا وإن لم يكن فيه قيام وقعود، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم وجملة {تُبَوّئ} حال من فاعل {غَدَوْتَ} ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناويًا وقاصدًا للتبوئة، ومقاعد مفعول ثان لتبوئ والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو حذوف وقع صفة لمقاعد، ولا يجوز كما قال أبو البقاء أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل. روى ابن إسحق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث: «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدًا قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضًا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت بقرًا تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبد الله بن أبيّ بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر: أخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد صلّى الله تعالى عليك وسلّم فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمتهُ أن يضعها حتى يقاتل فخرج صلى الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله تعالى أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبو إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف: «شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: «لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرًا خارجًا قال: تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلًا وقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاث آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة وكان ما كان» وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية، والقول بأنها إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب خلاف ما عليه الجمهور. {والله سَمِيعٌ} لسائر المسموعات ويدخل ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولًا أوليًا {عَلِيمٌ} بسائر المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ والجملة اعتراض للإيذان بأنه قد صدر عنهم هناك من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدوره منهم، ومن ذلك قول أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة المسلمين على كفار قريش: قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا ينسلون رجلًا فرجلًا حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبد الله سوى اثني عشر رجلًا مع إيصاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بثبوتهم مكانهم. .تفسير الآية رقم (122): {إِذْ هَمَّتْ} قيل: بدل من {إِذْ غَدَوْتَ} [آل عمران: 121] مبين لما هو المقصود بالتذكير. وجوز أن يكون ظرفًا لتبوئ أو لغدوت أو لسميع عليم على سبيل التنازع أو لهما معًا في رأي، وليس المراد تقييد كونه سميعًا عليمًا بذلك الوقت {طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ} أي فرقتان من المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وخلق كثير، وقال الجبائي: همت طائفة من المهاجرين وطائفة من الأنصار {أَن تَفْشَلاَ} أي تضعفا وتجبنا حين رأوا انخذال عبد الله بن أبيّ بن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنسبك من أن والفعل متعلق بهمت والباء محذوفة أي همت بالفشل وكان المراد به هنا لازمه لأن الفعل الاختياري الذي يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله: ويؤيد ذلك قوله تعالى: {والله وَلِيُّهُمَا} أي ناصرهما والجملة اعتراض. وجوز أن تكون حالًا من فاعل همت أو من ضميره في تفشلا مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله تعالى، وقرأ عبد الله والله وليهم بضمير الجمع على حد {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9]. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي عليه سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول وإظهار الاسم الجليل للتبرك به والتعليل وأل في {المؤمنون} للجنس ويدخل فيه الطائفتان دخولًا أوليًا، وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان بالله تعالى من موجبات التوكل عليه، وحذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها. .تفسير الآية رقم (123): {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما أو مساقة لإيجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه. وبدر كما قال الشعبي بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت به، وقال الواقدي: اسم للموضع، وقيل: للوادي وكانت كما قال عكرمة متجرًا في الجاهلية. وقال قتادة: إن بدرًا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة اثنتين من الهجرة، والباء عنى في أي نصركم الله في بدر {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} حال من مفعول نصركم وأذلة جمع قلة لذليل، واختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم، والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل دخول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به، وقيل: لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد وأنتم أذلة في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم، وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك. {فاتقوا الله} باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر اكتفاءًا بما سبق وما لحق مع الإشعار على ما قيل بشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مباديها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الإخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه، ويحتمل أن يكون كناية أو مجازًا عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل: فاتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه. .تفسير الآية رقم (124): {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ظرف لـِ {نَصَرَكُمُ} [آل عمران: 123]، والمراد به وقت ممتد وقدم عليه الأمر بالتقوى إظهارًا لكمال العناية، وقيل: بدل ثان من {إذ غدوت} [آل عمران: 121] وعلى الأول: يكون هذا القول ببدر، وعلى ذلك الحسن وغيره. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} إلخ فبلغت كرزًا الهزيمة فلم يمد المشركين؛ وعلى الثاني: يكون القول بأحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم يوجدا منهم فلم يمدوا، ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى الروايتين عنه. {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ} الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناءًا على أنه الزيادة على نفي الحاجة والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالًا بعد حال، ويقال مد في السير إذا استمر عليه، وامتد بهم السير إذا طال واستمر، وعن بعضهم ما كان بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادًا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه: مده مدًا، وقيل: يقال: مده في الشر وأمده في الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك، وأتى بلن لتأكيد النفي بناءًا على ما ذهب إليه البعض، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار، وأن يمدكم في تأويل المصدر فاعل بيكفيكم ومن الملائكة بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه. ومنزلين صفة لثلاثة آلاف، وقيل: حال من {الملائكة} وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من أشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في الفتوحات، وقرئ {منزلين} بالتشديد للتكثير أو للتدريج، وقرئ مبنيًا للفاعل من الصيغتين على معنى منزلين الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة، وقد أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاءًا أيضًا على أنه أجرى الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد.
|